الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم خلع السلطان الملك الناصر على الأمير يشبك الشعباني الخازندار باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن سيدي سودون المنتقل إلى نيابة الشام واستمر السلطان بدمشق إلى ليلة الخميس رابع شهر رمضان فقتل في الليلة المذكورة الأمير تنم الحسني نائب الشام بمحبسه بقلعة دمشق وقتل معه الأمير سودون بلطا نائب طرابلس أيضًا خنقًا بعد أن استصفيت أموالهما بالعقوبة ثم سلما إلى أهلهما فدفن تنم بتربته التي أنشأها عند ميدان الحصى خارج دمشق. وكان تنم المذكور - رحمه الله - من محاسن الدنيا وكانت مدة ولايته على دمشق سبع سنين وستة أشهر ونصفًا. ولقد أخبرني بعض مماليك الوالد - رحمه الله - قال: لما حضر تيمورلنك العساكر المصرية بدمشق كان الوالد يوم ذلك متولي نيابة دمشق وكان مقيمًا على بعض أبواب دمشق لحفظها وكان نوروز الحافظي على باب آخر فركب نوروز الحافظي في بعض الأيام وأتى الوالد ووقف يحدثه فكان من جملة كلامه للوالد: يا فلان انظر عساكر هذا اللعين ما أكثرها! والله لو عاش أستاذنا لما قدر عليه لكثرة عساكره فتبسم الوالد وخاشنه في اللفظ يمازحه وقال له: والله لو كان تنم حيًا للقيه من الفرات وهزمه أقبح هزيمة وإنما عساكرنا الآن مفلولة وآراؤهم مختلفة وليس فيهم من يرجع إلى كلامه فلهذا كان ما ترى. انتهى. ثم دفن سودون بلطا بصالحية دمشق وكان أيضًا ولي نيابة طرابلس نحو بست سنين. ثم قتل جميع من كان من أصحاب أيتمش وتنم ولم يبق منهم إلا آقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب والوالد أبقي لشفاعة أخته خوند شيرين. أم السلطان الملك الناصر فرج فيه فإنها كانت ألزمت الأمير نوروز الحافظي والأمير يشبك الشعباني بالوالد وحرضتهما على بقائه وكان لها يوم ذلك جاه كبير لسلطنة ولدها الملك الناصر ثم أوصت ولدها الملك الناصر أيضًا به فزاد ذلك فسحة الأجل فأبقي وأما آقبغا الأطروش فإنه بذل في إبقائه مالًا كبيرًا للأمراء فأبقي. ثم خلع السلطان على الأمير بتخاص السودوني باستقراره في نيابة الكرك عوضًا عن سودون ثم خرج السلطان بعساكره وأمرائه من مدينة دمشق في يوم رابع شهر رمضان صبيحة قتل تنم وسودون يريد الديار المصريه. وسار حتى نزل غزة في ثاني عشر شهر رمضان المذكور وقتل بغزة علاء الدين على ابن الطبلاوي أحد أصحاب تنم ثم خرج من غزة وسار يريد القاهرة حتى وصلها في سادس عشرين رمضان من سنة اثنتين وثمانمائة بعد أن زينت القاهرة وفرشت له الشقاق الحرير من تربة الأمير يونس الدوادار بالصحراء إلى قلعة الجبل وكان يوم دخوله إلى مصر من الأيام المشهودة وطلع إلى القلعة وكثرت التهاني بها لمجيئه. ثم في ثامن عشرينه أنعم السلطان على الأمير قطلوبغا الكركي الحسني الظاهري بإقطاع سيدي سودون نائب الشام وأنعم على الأمير آقباي الكركي الخازندار بإقطاع شيخ المحمودي المنتقل إلى نيابة طرابلس وأنعم على الأمير جركس القاسمي المصارع بإقطاع مبارك شاه وأنعم على الأمير جكم من عوض بإقطاع دقماق المحمدي نائب حماة والجميع تقادم ألوف وأنعم على الأمير الطواشي مقبل الزمام بإقطاع الطواشي بهادر الشهباني مقدم المماليك بعد موته وأنعم بإقطاع مقبل على الطواشي صواب السعدي المعروف بشنكل وقد استقر مقدم المماليك بعد موت بهادر المذكور وأنعم بإقطاع صواب المذكور على الطواشي شاهين الألجائي نائب مقدم المماليك. ثم قدم على السلطان مملوك الأمير يلبغا المجنون من بلاد الصعيد بكتاب يلبغا المجنون يسأل في نيابة الوجه القبلي فرسم السلطان أن يخرج إليه تجريدة من الأمراء وهم: الأمير نوروز الحافظي وهو مقدم العسكر المذكور وبكتمر أمير سلاح وآقباي الحاجب وتمراز أمير مجلس ويلبغا الناصري وإينال باي بن قجماس وأسنبغا الدوادار وتتمة ثمانية عشر أميرًا وخرجوا من القاهرة في ثالث عشر شوال ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية. وفي صبيحة يوم خروج العسكر ورد الخبر على السلطان بأن الأمير محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري حارب يلبغا المجنون وأنه قبض على أمير علي دواداره وعلى نائب الوجه البحري وعلى الأمير إياس الكمشبغاوي الخاصكي وعلى جماعة من أصحابه وأن يلبغا المجنون فر بعد أن انهزم ونزل إلى البحر بفرسه فغرق وأنه أخرج من النيل ميتًا فوجدوه قد أكل السمك لحم وجهه فسر السلطان والأمراء بذلك وخرج البريد في الوقت بعود الأمراء المجردين إلى القاهرة. ثم في ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بيسق الشيخي أمير آخور الثاني بالمحمل وكان تكلم الناس بعدم سفر الحاج في هذه السنة ولم يكن لذلك أصل. ثم ابتدأت الفتنة بين الأمير يشبك الشعباني الدوادار وبين الأمير سودون من علي بك المعروف بطاز الأمير آخور الكبير ووقع فلما كان يوم ثامن عشرين شوال المذكور منع جميع مباشري الدولة بديار مصر من النزول إلى بيت الأمير يشبك الدوادار وذلك أن المباشرين بأجمعهم الكبير منهم والصغير كانوا ينزلون في خدمة يشبك منذ قدم السلطان من دمشق فعظم ذلك على سودون طاز وتفاوض معه في مجلس السلطان في كفه عن ذلك حتى أذعن يشبك فمنعوا ثم نزلوا إليه على عادتهم وصاروا جميعًا يجلسون عنده من غير أن يقفوا وكانوا من قبل يقفون على أقدامهم. ثم في ثاني ذي القعدة ورد الخبر على السلطان من حلب بواقعة الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب مع السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد والعراق. وخبره أن القان غياث الدين أحمد بن أويس المذكور لما ملك بغداد بعد حضوره إلى الديار المصرية حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية فأخذ السلطان أحمد المذكور يسير مع أمرائه ورعيته سيرة سيئة فركبوا عليه وقاتلوه وكاتبوا صاحب شيراز في القدوم عليهم لأخذ بغداد. وخرج ابن أويس منهزمًا إلى الأمير قرايوسف يستنجده فركب معه قرايوسف وسار إلى بغداد فخرج إليهما أهل بغداد وقاتلوهما وكسروهما بعد حروب طويلة فانهزما إلى شاطىء الفرات وبعثا يسألان الأمير دمرداش نائب حلب في نزولهما ببلاد الشام ففي الحال استدعى دمرداش دقماق نائب حماة بعساكره إلى حلب فقدم عليه وخرجا معًا في عسكر كبير وكبسا ابن أويس وقرايوسف وهما في نحو سبعة آلاف فارس فاقتتلا قتالًا شديدًا في يوم الجمعة رابع عشرين شوال قتل فيه الأمير جانبك اليحيائي أتابك حلب وأسر دقماق المحمدي نائب حماة وانهزم دمرداش المحمدي نائب حلب وفر فيمن بقي من عسكره إلى حلب ثم لحقه دقماق بعد أن فدى نفسه بمائة ألف درهم وحضر الوقعة الأمير سودون من زادة المتوجه بالبشارة إلى البلاد الشامية بسلامة السلطان وقدم مع ذلك كتب ابن أويس وقرايوسف على السلطان تتضمن: " إنا لم نجىء محاربين وإنما جئنا مستجيرين مستنجيدين بسلطان مصر على عوائد فضل أبيه الملك الظاهر - رحمه الله - فحاربنا هؤلاء بغتة فدافعنا عن أنفسنا وإلا كنا هلكنا فلم يلتفت أهل الدولة إلى كتبهما وكتبوا إلى نائب الشام بمسيره بعساكر الشام وقتال بن أويس وقرايوسف والقبض عليهما وإرسالهما إلى مصر. هذا وخوند شيرين والدة الملك الناصر فرج مستمرة السعي في الإفراج عن الوالد من سجنه بقلعة دمشق إلى أن أجاب الأمراء إلى ذلك وكتب بالإفراج عنه وعن الأمير آقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب في يوم عرفة من محبسهما بقلعة دمشق وحملا إلى القدس بطالين بها. وبينما القوم في انتظار ما يرد عليهم من أمر السلطان أحمد بن أويس وقرايوسف قدم عليهم الخبر من حلب بنزول تيمورلنك على مدينة سيواس وأنه حارب سليمان بن أبي يزيد بن عثمان فانهزم سليمان المذكور إلى أبيه بمدينة برصا ومعه قرايوسف وأخذ تيمور سيواس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة. ثم وصلت بعد قليل رسل ابن عثمان إلى الديار المصرية وكتابه يتضمن اجتماع الكلمة وأن يكون مع السلطان عونًا على قتال هذا الطاغية تيمورلنك ليستريح الإسلام والمسلمون منه وأخذ يتخضع ويلح في كتابه على اجتماع الكلمة فلم يلتفت أحد إلى كلامه وقال أمراء مصر يوم ذاك: " الآن صار صاحبنا وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا وأخذ ملطية من عملنا فليس هو لنا بصاحب: يقاتل هو عن بلاده ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا " وكتب له عن السلطان بمعنى هذا اللفظ. وكان ما قاله أبو يزيد بن عثمان من أكبر المصالح فإنه حدثني فيما بعد الأمير أسنباي الظاهري الزردكاش وكان أسره تيمور وحظي عنده وجعله زردكاشه قال: قال لي تيمورلنك ما معناه أنه لقي في عمره عساكر كثيرة وحاربها لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان المذكور. غير أن عسكر مصر كان عسكرًا عظيمًا ليس له من يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب وعسكر ابن عثمان المذكور غير أنه كان أبو يزيد صاحب رأي وتدبير وإقدام لكنه لم يكن من العساكر من يقوم بنصرته. قلت: ولهذا قلت إن المصلحة كانت تقتضي الصلح مع سليمان بن أبي يزيد ابن عثمان المذكور فإنه كان يصير للعساكر المصرية من يدبرها ويصير لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عونًا فكان تيمور لا يقوى على مدافعتهم فإن كلًا من العسكرين كان يقوى على دفعه لولا ما ذكرناه فما شاء الله كان. وبعد أن كتب لابن عثمان بذلك لم يتأهب أحد من المصريين لقتال تيمور ولا التفت إلى ذلك بل كان جل قصد كل أحد منهم ما يوصله إلى سلطنة مصر وإبعاد غيره عنها ويدع الدنيا تنقلب ظهرًا لبطن فإنه مع ورود هذا الخبر المزعج بلغ السلطان والأمراء أن الأمير قاني باي العلائي الظاهري أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة يريد إثارة فتنة فطلبه السلطان وأمره بلبس التشريف بنيابة غزة فامتنع من لبسه فأمر السلطان به فقبض عليه وسلم للأمير آقباي الحاجب فأخذه ونزل إلى داره وأقام عنده إلى آخر النهار فاجتمع عليه طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه من آقباي الحاجب غصبًا فخاف آقباي وطلع به إلى القلعة فطلب السلطان الأمراء وتشاوروا في أمره فاتفقوا على إبقائه في إمرته ووظيفته. ثم في خامس عشرين المحرم من سنة ثلاث وثمانمائة ورد البريد على السلطان من حلب بأخذ تيمور ملطية ثم وصل من الغد البريد أيضًا بوصول أوائل عسكر تيمورلنك إلى مدينة عينتاب وفي الكتاب: أدركوا المسلمين وإلا هلكوا. فاستدعى السلطان بعد يومين الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة وأعلموا أن تيمورلنك وصلت مقدمته إلى مرعش وعينتاب وكان القصد بهذا الجمع أخذ مال التجار إعانة على النفقة في العساكر فقال القضاة: " أنتم أصحاب الأمر والنهي وليس لكم فيه معارض وإن كان القصد الفتوى في ذلك فلا يجوز أخذ مال أحد يخاف على العساكر من الدعاء " فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف من البلاد نقطعها للأجناد البطالين فإن الأجناد قلت لكثرة الأوقاف فقال القضاة: وما قدر ذلك ومتى اعتمدتم على البطالين في الحرب خيف أن يؤخذ الإسلام. وطال الكلام في ذلك حتى استقر الرأي على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمورلنك. وسار أسنبغا في خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء. هذا وأهل البلاد الشامية في أمر لا يعلمه إلا الله تعالى مما داخلهم من الرعب والخوف وقصد كل واحد أن يرحل من بلده فمنعه من ذلك حاكم بلده ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم. ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدي وصحبته أيضًا كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا بعد ما ملك مدينتها وأنه مستمر على حصارها وقد وصلت عساكره إلى عينتاب ووصل هذا الخبر إلى مصر في يوم رابع عشرين صفر المذكور فوقع الشروع عند ذلك في حركة سفر السلطان ثم علق جاليش السفر في يوم ثالث شهر ربيع الأول. وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق في سابع صفر فقرأ كتاب السلطان في الجامع الأموي وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور وقدم في تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء بأنه قدم في عام أول إلى العراق يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة ثم عاد إلى الهند فبلغه موت الملك الظاهر فعاد وأوقع بالكرج ثم قصد الروم لما بلغه قلة أدب هذا الصبي سليمان بن أبي يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه فتوجه إليه وفعل بسيواس وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة ويذكر اسمه في الخطبة ثم يرجع وطلب في الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه في دولة الملك الظاهر برقوق " وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين في ذمتكم " فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه وأمر بالرسول فوسط. وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر في ثالث شهر ربيع الأول. وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة ظاهر حلب وقد اجتمع بحلب سائر نواب البلاد الشامية واستحث في خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمورلنك في سبعمائة فارس والتتار في نحو ثلاثة آلاف فارس وترامى الجمعان بالنشاب ثم اقتتلوا ساعة وأخذ شيخ من التتار أربعة وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب وكان الذي اجتمع بها: الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها ونائب طرابلس شيخ المحمودي المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجالتها ونائب حماة دقماق المحمدي بعساكر حماة وعربانها ونائب صفد ألطنبغا العثماني بعساكر صفد وعشيرها ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة غير أن الكلمة متفرقة والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان انتهى. وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب ويأمره بمسك سودون نائب الشام فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام وقال لدمرداش: " إن الأمير - يعني تيمور - لم يأت البلاد بمكاتباتك إليه وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها فحنق منه دمرداش لما سمع منه هذا الكلام وقام إليه وضربه ثم أمر به فضربت رقبته. ويقال إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك وعدائه ومكره ليفرق بذلك بين العساكر فعلم الأمراء ذلك ولم يقع ما قصده - ومن الحلبيين جماعة يقولون إلى الآن إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال. والله أعلم بصحة ذلك. ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور وتهيأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره لعلمهم بعدم رأي مدبري مملكة مصر من الأمراء ولصغر سن السلطان وقد فات الأمر وهم في قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه وكان الأليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس كما فعل الملك الظاهر برقوق - رحمه الله - فيما تقدم ذكره. وبينما النواب في إصلاح شأنهم للقتال نزل تيمور بعساكره على قرية حيلان خارج حلب في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأول وأحاط بمدينة حلب وأصبح من الغد في يوم الجمعة زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها فكانت بين أهل حلب وبينه في هذين اليومين حروب كثيرة ومناوشات بالنشاب والنفوط والمكاحل. وركب أهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشد قتال فلما أشرقت الشمس يوم السبت حادي عشره خرج نواب الشام بجميع عساكرها وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور ووقف سيدي سودون نائب دمشق بمماليكه وعساكر دمشق في الميمنة ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه وعساكر حلب في الميسرة ووقف بقية النواب في القلب وقدموا أمامهم أهل حلب المشاة فكانت هذه التعبية من أيشم التعابي هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبية العساكر. وحال وقوف الجميع في منازلهم زحف تيمور بجيوش قد سدت الفضاء وصدم عساكر حلب صدمة هائلة فالتقاه النواب وثبتوا لصدمته أولًا ثم انكسرت الميسرة وثبت سودون نائب الشام في الميمنة وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالًا عظيمًا وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفي وولده يشبك بن أزدمر في عدة من الفرسان وقد بذلوا نفوسهم في سبيل الله وقاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء عظيمًا وظهر عن أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعله يذكر إلى يوم القيامة. ولم يزل أزدمر يقتحم القوم يكر فيهم إلى أن قتل وفقد خبره فإنه لم يقتل إلا وهو في قلب العدو وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره سوى ما في بدنه. ثم أخذ يشبك وحمل إلى بين يدي تيمور فلما رأى تيمور ما به من الجراح تعجب من إقدامه وثباته غاية العجب وأمر بمداواته فيما قيل ولم تمض غير ساعة حتى ولت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب وركب أصحاب تيمور أقفيتهم فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور حتى النساء والصبيان وازدحم الناس مع ذلك في دخولهم إلى أبواب المدينة وداس بعضهم بعضًا حتى صارت الرمم طول قامة والناس تمشي من فوقها. وقصد نواب المماليك الشامية قلعة حلب وطلعوا إليها فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب. هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب في الحال وأشعلوا فيها النيران وأخذوا في الأسر والنهب والقتل فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع حلب وبقية المساجد فمال أصحاب تيمور عليهن وربطوهن بالحبال أسرى ثم وضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأسرهم وشرعوا في تلك الأفعال القبيحة على عادتهم وصارت الأبكار تفتض من غير تستر والمخدرات يفسق فيهن من غير احتشام بل يأخذ التتري الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع بحضرة الجم الغفير من أصحابه ومن أهل حلب فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلة مقدرته ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهي مكشوفة العورة. ثم بذلوا السيف في عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى وجافت حلب واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول. هذا والقلعة في أشد ما يكون من الحصار والقتال وقد نقبها عسكر تيمور من عدة أماكن وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ. فتشاور النواب والأعيان الذين بالقلعة فأجمعوا على طلب الأمان فأرسلوا لتيمور بذلك فطلب تيمور نزول بعض النواب إليه فنزل إليه دمرداش نائب حلب فخلع عليه ودفع إليه أمانًا وخلعًا إلى النواب وأرسل معه عدة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب فطلعوا إليها وأخرجوا النواب منها بمن معهم من الأمراء والأعيان وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه فنظر إليهم طويلًا وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام. ثم أخذ يقرعهم ويوبخهم ويلوم سودون نائب الشام في قتله لرسوله ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به. ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة ففرقها على أمرائه وأخصائه. واستمر النهب والسبي والقتل بحلب في كل يوم مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد وجافت حلب وظواهرها من القتلى بحيث صارت الأرض منهم فراشًا لا يجد الشخص مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمة قتيل. وعمل تيمور من رؤوس المسلمين منابر عدة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا حسب ما فيها من رؤوس بني آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس ولما بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها. ثم رحل تيمور من حلب بعد أن أقام بها شهرًا وتركها خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد خربت وتعطلت من الأذان والصلوات وأصبحت خرابًا يبابًا مظلمة بالحريق موحشة قفرًا لا يأويها إلا البوم والرخم. وسار تيمور قاصدًا جهة دمشق فمر بمدينة حماة وكان أخذها ابنه ميران شاه. وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول المذكور وأحاط بها بعساكره بعد أن نهب خارج مدينة حماة وسبى النساء والأطفال وأسر الرجال واستمرت أيدي أصحابه يفعلون في النساء والأبكار تلك الأفعال القبيحة وخربوا جميع ما هو خارج عن سور المدينة. هذا وقد استعد أهل حماة للقتال وركب الناس سور المدينة وامتنعوا من تسليم المدينة وباتوا على ذلك فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور ففتحوا له بابًا من أبواب المدينة ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان فقدم الناس عليه وقدموا له أنواع المطاعم فقبلها منهم وعزم أن يقيم رجلًا من أصحابه عليها فقيل له: إن الأعيان قد خرجوا منها فخرج إلى مخيمه وبات به. ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير ومع ذلك فإن قلعة حماة لم يتسلمها بل كانت امتنعت عليه. فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرهما بالمدينة فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها وآقتحم البلد وأشعل النار بها وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب غير أنه كان رفق بأهل حلب فإنه كان سأل قضاة حلب لما صاروا في أسره عن قتاله ومن الشهيد. فأجاب محب الدين محمد بن محمد بن الشحنة الحنفي بأن قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد فأعجبه ذلك وحادثهم فطلبوا منه أن يعفو عن أهل حلب ولا يقتل أحدًا فأمنهم جميعًا وحلف لهم فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم. وأما أهل دمشق فإنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة والاستعداد لقتال العدو المخذول فأخذوا في ذلك فقدم عليهم المنهزمون من حماة فعظم خوف أهلها وهموا بالجلاء فمنعوا من ذلك ونودي: من سافر نهب فعاد إليها من كان خرج منها وحصنت دمشق ونصبت المجانيق على قلعة دمشق ونصبت المكاحل على أسوار المدينة واستعدوا للقتال استعدادًا جيدًا إلى الغاية. ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب الغيبة بدمشق ليتسلموا منه دمشق فهم نائب الغيبة بالفرار فرده العامة ردًا قبيحا وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها واستغاث النساء والصبيان وخرجت النساء حاسرات لا يعرفن أين يذهبن حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد. ے وقدم الخبر في أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشامية ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان. وأما
فإنه لما كان ثامن عشر ضهر ربيع الأول وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيام فرقت الجماكي على المماليك السلطانية بسبب السفر. ثم في عشرينه نودي على أجناد الحلقة بالقاهرة أن يكونوا في يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الشعباني الدوادار للعرض عليه. ثم في خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وأنه يحاصر قلعتها فكذبوا ذلك وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه ووقع الشروع في النفقة فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم. ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر. ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة والأمير آقباي الحاجب ونودي بين أيديهم: الجهاد في سبيل الله تعالى لعدوكم الأكبر تيمورلنك فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب وقتل الأطفال على صدور الأمهات وأخرب الدور والجوامع والمساجد وجعلها إسطبلات للمواشي وإنه قاصدكم يخرب بلادكم ويقتل رجالكم فاضطربت القاهرة لذلك واشتد جزع الناس وكثر بكاؤهم وصراخهم وانطلقت الألسنة بالوقيعة في أعيان الدولة. وأهل شهر ربيع الآخر فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الدوادار وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها بآتفاق دمرداش وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق يخفي بين الناس وبين الخروج من دمشق فإن الأمر صعب أو أن النائب لم يمكن أحدًا من السير. فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالريدانية بأمرائه وعساكره أو الخليفة والقضاة وتعين الأمير تمراز الناصري أمير مجلس في نيابة الغيبة بالديار المصرية وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة أخر وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة وفي تحصيل ألف فرس وألف جمل وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسفر. ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاي من خجا على رأس نوبة النوب كان في نيابة الإسكندرية بعد موت نائبها فرج الحلبي. وكان أرسطاي منذ أفرج عنه بطالًا بالإسكندرية فوردت عليه الولاية وهو بها. وأخذ الأمير تمراز في عرض أجناد الحلقة وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلي والبحري لقتال تيمور كل ذلك والسلطان بالريدانية.
|